مدينة الإسكندرية القديمة - يوم عاشت الآلهة مع الانسان
بعد فترة من التفكر في الوضع الفريد الذي كان قائماً في مصر في بدايات الحقبة المسيحية سوف يجد الفرد ما يدهشه. لقد أصبحت مدينة الاسكندرية المركز التعليمي العظيم للحضارة الغربية والشرق أوسطية. تأسست الاسكندرية في زمن الاسكندر العظيم وكانت خاضعة لحكم الفراعنة الإغريق، أي البطالمة، وهذا الحكم استمر حتى موت كيليوباترا، وبعدها سيطرت روما على البلاد.
![]() |
مدينة الإسكندرية القديمة - يوم عاشت الآلهة مع الانسان |
لكن الاهتمام الهائل بالاسكندرية نشأ بخصوص التجمع العظيم والذي لا يضاهي للعلوم التي ازدهرت فيها. كل مجال من الأبحاث الإنسانية قد نشأ وتكشف وتقدم ضمن البيئة الاسكندرانية. كانت مدينة الاسكندرية تمثل عقدة النقاء مجموعة من خطوط التجارة، وهذا جعل الشرق والغرب يتخالطان هناك. العقائد والتعاليم الشرقية وتلك الرومانية واليونانية اختلطتا ببعضها بعشوائية غريبة.
بعد ظهور المسيحية، كان لكل من اللإيمان المسيحي واليهودي قواعد قوية في الاسكندرية. يمكننا القول أيضاً أن التركيبة العقائدية في هذه المدينة كانت مؤلفة من اثني عشر أو حتى عشرين من الأديان والفلسفات العظمى في العالم القديم. كانت المدينة تمثل مركز مذهل وفريد للتعليم والتوسع في المعرفة.
هناك عامل آخر مهم بخصوص هذا التجمع الاسكندراني العظيم وهو منشأت المكتبات العظيمة. كانت مكتبات الاسكندرانية تعتبر الأشهر على الإطلاق في العالم القديم وربما هي الأضخم التي تم بنائها في ذلك الزمن. مكتبتا السيرابيوم والأوبراكيوم احتوتا لوحدهما على أكثر من مليون مخطوط ولوح وصفيحة ولفيفة بردي، وتشمل في محتوياتها حكمة العالم القديم.
عندما تم تدمير هذه المكتبات بطريقة همجية ووحشية كانت الإنسانية قد جردت من أكبر كمية من المعرفة والتي لا يمكننا تقديرها أو تقييم مدى عظمتها. بالإضافة إلى أن تدمير هذه المكتبات أفعل الباب أمام تعرفنا على مصدر الحكمة التي تميزت بها الاسكندرية. من الممكن أن الكثير من الأفكار والمعتقدات والتعاليم التي تعتقد اليوم بأنه تم ابتكارها في الاسكندرية هي في الأصل معلومات مستقاة من مصادر سابقة كانت تحتويها مكتبات الاسكندرية المندثرة.
هذا بالتالي يجعل حكمة الاسكندرية تعتمد على أساس عريق ومتين، لكن هذا الأساس اختفى واندثر مع المكتبات ولم يبقى مكانه سوى الأساطير والخرافات. إنه مثير مثلاً أن ندرك بأن أول مترجم لحكايا "إيسوب" كان يعيش في الاسكندرية.
كما أننا علمنا ، أحد القائمين على العلم والمعرفة في ذلك الزمن بأن سكان الاسكندرية اخترعوا أول آلة تعمل على العملة النقدية. لكن هذه الآلة لم تبيع قطع الحلوى أو السجائر من الحال اليوم، بل كانت ترش كمية من ماء مقدسة كلما وضعت فيها عملة نقدية. هذا يعني أن الآلات الحديثة التي تألفها اليوم تعتمد على نموذج تلك الآلة التي كانت في الاسكندرية في ذلك الزمن القديم.
![]() |
لوحة فنية تصور جانب من مدينة الاسكندرية في ذروة مجدها |
في كل مكان تجدهم، في علم الأعشاب وعلم الدواء والفلسفة والفن والأدب والشعر..، هؤلاء الناس الغامضون الذين سكنوا في تلك المنطقة المصرية الواسعة كانوا متعلمين بشكل واسع جداً يفوق التصور. نحن نعلم بأن كامل تركيبة الفكر الهرمزي وقصة هرمز الهرامزة ظهرت في الاسكندرية.
كما أننا نعلم بأن الاسكندرانيون كانوا يحوزون على معرفة قيمة في مجال التنبؤ بالمستقبل، حيث هناك أيضاً تم تأليف كتب "سيبلين" التي اشتهرت عبر العصور القديمة قبل أن ضاعت. هذه الكتب تنبأت بمستقبل العالم، وقد مثلت مصادر مهمة للكثير من الأعمال الأدبية والفلسفية التي ظهرت لاحقاً.
بطليموس الذي عاش في الاسكندرية هو الذي قدم للعالم علم الفلك (التنجيم)، وقد ساهم بشكل كبير لاحقاً في ظهور علم الفلك الحديث. كان يوجد في الاسكندرية حدائق كبيرة من كافة الأنواع، أهمها حدائق الحيوان التي اشتهرت بها، والتي احتوت بعضها على بحيرات للسمك. كما كان هناك محميات خاصة لحماية الحيوانات. كانت المدينة تشمل كل شيء يمكننا التفكير به وحتى أكثر.
الامر الذي قد لا يفطن به الكثيرون هو أنه في حديثنا عن أمجاد العلوم المصرية القديمة وبعودتنا بذاكرة التاريخ إلى الوراء فنحن غالباً لا تتجاوز حدود العصر الذهبي للإسكندرية التي مثلت في تلك الفترة مركز عظيم للعلم والفلسفة وحتى الدين. لكن قبل بزمن بعيد من هذه الفترة المزدهرة في مصر كان يزدهر عالم آخر مختلف تماماً، وكان عالم العظمة والجبروت بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.